هل تكلم سيدنا سليمان مع الطيور؟
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ* وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل: 16-17).
قال المفسرون عن قول سليمان: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أنه كان يفهم لغة الطيور من حمام وسمان وحجل وعصافير وغيرها كما يفهم الإنسان كلام إنسان آخر.
وقالوا إن سليمان عليه السلام رأى ذات يوم بلبلاً على غصن يغرد ويحرك رأسه وذيله، فقال لمن حوله: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال إنه يقول: أكلتُ نصف تمرة فعلى الدنيا العَفاء.
ثم ناحت حمامة، فقال سليمان إنها تقول: ليت هذه الخلائق لم تُخلق. ويقول المفسرون أيضًا أن سليمان عليه السلام كان يقول إن الحمام يقول: لِدُوا للموت وابنُوا للخراب، ويقول الطاووس: مهما تفعل تُجزَ به. ويقول الهدهد: من يرحم الناس يرحمه الله تعالى. وتقول الأبابيل من العصافير: قدِّموا الأعمال الصالحة تجدوها عند الله.
وتقول الحمامة: سبحان ربي الأعلى ملْءَ سمائه وأرضه.
وتقول القطة: من يسكت يسلم.
وتقول الببغاء: ويل لمن الدنيا همُّه. ويقول الديك: أيها الغافل اذكر الله.
ويقول الضفدع: سبحان ربي القدوس.
ويقول العصفور: استغفروا أيها الآثمون.
وتقول الحدأة: كل شيء هالك إلا وجهه. (القرطبي) إذًا، فقد بذل المفسرون جهدهم ليثبتوا أن سليمان ؏ كان يفهم منطق الطير جيدًا، وقد ضموا الضفدع إلى الطيور أثناء محاولتهم هذه. والحق أنهم قد وقعوا في هذا الخطأ لعدم فهمهم هذا الكلام الذي هو من قبيل الاستعارة والمجاز، مع أنه يماثل قول الله ﷻ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة: 188).. أي أن وقت السحور في ليالي رمضان ينتهي عندما يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ولكن بعض الفلاحين البسطاء من بلادنا “البنجاب” يضعون عندهم في ليالي رمضان خيطًا أبيض وخيطًا أسود، وبما أن الخيط لا يُرى إلا في الضوء الكافي، فلا يبرحون يأكلون بعد طلوع الفجر أيضًا في انتظار أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
كذلك حال هؤلاء القوم الذين لا يفهمون التشبيه والاستعارة، فإذا قرؤوا في القرآن أن لله يدًا يقولون -والعياذ بالله- إن يده ﷻ أيضًا من اللحم والدم مثل أيدينا. وإذا قيل لهم إن المراد من يد الله ﷻ قوته وقدرته قالوا لا يحق لكم التأويل فإن الله ﷻ نفسه قال إن له يدًا. وإذا قرؤوا قول الله ﷻ عن نفسه: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف: 55) فلا يبرحون حتى يقولوا أن الله ﷻ جالس على عرش من الرّخام… وكما تكثر الاستعارة والمجاز في كل لغة من لغات العالم كذلك ترد الاستعارات في الصحف السماوية أيضًا، ولكن الذين لا يفهمون الحقيقة يتمسكون بظاهر الكلمات فيَضِلّون ويُضِلّون. وهذا هو حال قول سليمان ؏: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ)، فلما رأى المفسرون كلمة (الطَّيْرِ) هنا ظنوا أن من خصوصيات سليمان أن الله ﷻ علّمه لغة السمان والحجل وغيرها من الطيور. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما الفائدة من تعليم منطق الطيور؟ فهل تعلَم الطيور معارف وعلومًا عظيمة حتى نقول أن سليمان ؏ عُلّم منطقها لكي لا يظل محرومًا من معارفها وعلومها.
كلا، بل الواقع أن الطيور لا تملك من العقل ما يملكه أغبى وأجهل إنسان في العالم، فماذا عسى أن يتعلم منها نبي الله سليمان ؏؟ وإذا كانت الطيور تبلغ من العقل والذكاء بحيث إن نبيًا عظيمًا كسليمان كان بحاجة ليتعلم منها العلوم والمعارف فلماذا أحلّ الشرع ذبحها؟ فتحريم ذبح الإنسان وإباحة ذبح الطيور والحيوانات يشكّل دليلاً بيّنًا على أن الله تعالى قد جعل هذا الفرق بسبب فارق العقل إذ لا يبلغ دماغ الطيور والحيوانات نصف الدماغ الإنساني.
فلأي حكمة عُلّم سليمان منطق الطير إذًا؟
ثم إن المفسرين لم يكتفوا بقولهم أن سليمان ؏ عُلّم منطق الطيور كلها فحسب، بل قالوا أن طير الهدهد قد بلغ من الذكاء والفطنة أنه فهم كلام ملكة قوم “سبأ” وكلام حاشيتها وكلام سليمان ؏، بينما لم يستطع أحد فهم كلام الهدهد إلا سليمان (الرازي). وهذا يعني أن هذا الطير كان أكثر ذكاءً من جميع الأمراء والوزراء والعلماء والحكماء الذين كانوا في بلاط سليمان، إذ كان يفهم كلامهم ولكنهم كانوا لا يفهمون كلامه، وكان هناك شخص واحد يفهم كلامه وهو سليمان، وكأن سليمان وحده كان يساوي طير الهدهد هذا عقلاً وذكاءً.
إنها فكرة لا يرضى بها أي إنسان عاقل، لأن التسليم بها يعني أن الطيور أفضل من الإنسان فلا يجوز ذبحها، بل يجب ذبح الإنسان مكانها لأنه أقل منها عقلاً – والعياذ بالله.
فثبت أن هذه فكرة فوضوية لا يمكن أن يقبلها كل ذي عقل سليم.
الحق أن قول سليمان: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) هو من قبيل الاستعارة والمجاز كما بينتُ من قبل، ولكن هؤلاء القوم لم يفهموه فوقعوا في نقاش لا طائل وراءه. الواقع أن الطير في العربية هو كل ما يطير، ويُطلق استعارةً على عباد الله المختارين المقربين الذين يحلّقون عاليًا في أجواء السماء الروحانية. وهناك إلهام باللغة الأردية تلقاه سيدنا المسيح الموعود ؏ يسلط الضوء على معنى الطير وهو: “أن آلاف الناس تحت أجنحتك“.(تذكرة (أردو)، ص 703، تاريخ الإلهام: 9 مارس 1907) ومن البديهي أن الأجنحة تكون للطيور فقط، والطيور هي التي تجلس تحت أجنحة الطير. إذًا، فإن الله تعالى قد سمى المسيح الموعود ؏ في هذا الوحي طيرًا وأخبره أن الذين يستفيدون من صحبته هم أيضًا طيور العالم الروحاني. فهذا الوحي قد شرح هذه الآية القرآنية وبين أن الطير لا يعني هنا طيورًا مادية، بل يعني عباد الله الذين يطيرون إليه ﷻ. وسبب إطلاق (الطير) عليهم استعارة هو أن الطيور تطير في جو السماء، والعلوم الروحانية أيضًا تنـزل من السماء، ومن الواضح أن الشيء الذي ينـزل من فوق سيتلقاه أوّلاً مَن يطير إلى فوق؛ فسُمي عباد الله الذين يطيرون في أجواء العالم الروحاني (طيرًا) لأنهم يتلقون علوم السماء وأسرار الغيب النازلة من عند الله ﷻ عبر الوحي والرؤى والكشوف، وهم الذين يُنعم الله ﷻ عليهم بفيوضه قبل غيرهم، ثم يتمتع بها الذين هم في صحبتهم.. كُلٌّ بقدر إخلاصه ودرجته. إذًا، فالمراد من قول سليمان ؏: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أنه قد عُلِّمَ اللغة التي يعلمها الذين يطيرون في سماء الروحانية عاليًا، أي أنه قد أُعطي المعارف والحقائق التي تُعطى للأنبياء. وقد أكد القرآن الكريم هذا الأمر لأن اليهود والنصارى لا يعتبرون سليمان ؏ نبيًا وإنما يعدّونه مَلكًا دنيويًا فقط، ومن أجل ذلك تجد الكتاب المقدس لا يذكره أبدًا كنبي بل يعتبره أحد الفلاسفة
كلها، بل المراد أنهم أُعطوا نصيبًا من النعم العظيمة المتوافرة في عصرهم وبلادهم. كذلك يقول الله تعالى عن أهل مكة: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) (القصص: 58). وليس المراد من كلمة (ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) ثمرات العالم كلها، بل المراد كثيرًا من الثمرات التي هي ضرورية لأهل مكة. ثم يقول الله تعالى للنحل: (كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) (النحل: 70)، مع أنها لا تأكل من كافة ثمرات العالم، بل من بعضها فقط. إذًا، فليس المراد من قول سليمان ؏: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أنه أُعطي كل شيء في الدنيا، بل أُعطي كل ما كان بحاجة إليه، أي أن الله تعالى سدّ له ؏ كل حاجة كما هيأ لملكة سبأ كل ما كانت بحاجة إليه في زمنها، ولذلك يقول سليمان ؏ بعد هذه الدعوى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).. أي أن حاجات الإنسان لا تُسد إلا بفضل خاص من عند الله تعالى. (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل: 18) يبدو من هذه الآية أن سليمان ؏ كان يتأهب عندئذ لمحاربة بعض البلاد، فجُمع له جنوده كلهم بمن فيهم جند الجن وجند الإنس وجند الطيور. إن المفسرين بمجرد أن يقرؤوا لفظ “الجن” هنا يظنون أن الجن كائنات غير مرئية كانت تحت إمرة سليمان ؏. مع أنهم لو تدبروا القرآن الكريم لم يلجؤوا إلى هذا التأويل الذي لا طائل منه. ولفهم حقيقة الجن علينا أن نرى أوّلاً وقبل كل شيء ما إذا كان القرآن يذكر أن الجن كانوا يحضرون إلى سليمان فقط، أم أنه ذكر أنهم حضروا إلى غيره من الأنبياء الآخرين أيضًا.
وعندما نفحص القرآن نقرأ فيه قول الله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الأحقاف: 30-32).. أي اذكُرْ، يا محمد، حين أتيناك بنفرٍ من الجن راغبين في سماع القرآن الكريم، فلما حضروا مجلسك قال بعضهم لبعض: اسكتوا لنسمع صوته جيدًا.
فلما انتهت تلاوة القرآن الكريم رجعوا إلى قومهم منذرين وقالوا: يا قومنا إنّا سمعنا تلاوة كتاب أُنـزل من بعد موسى، وهو يصدق كل الصحف السابقة له، ويدعو إلى الحق ويهدي إلى طريق مستقيم. يا قومَنا، لَبُّوا نداء منادي الله تعالى وآمِنوا به، يغفر لكم الله ذنوبكم وينجكم من عذاب أليم.
لقد ثبت من هنا أن الجن قد آمنوا بما نـزل على موسى ؏ من التوراة وما نـزل على النبي ﷺ. وعليه فلم يكن سليمان ؏ هو النبي الوحيد الذي آمن به الجن، بل قد آمنوا بموسى ؏ وآمنوا بالنبي ﷺ بحسب القرآن الكريم. ولكن المؤسف أن المفسرين يذكرون قصصًا غريبة عن الجن الذين كانوا تحت قبضة سليمان ؏. فيقولون مثلاً أنه كان يجلس على بساط، فكان الجن يمسكون بأطرافه ويطيرون به إلى السماوات. أما الجن الذين آمنوا بالنبي ﷺ في زمنه فلا يذكر المفسرون -ولو برواية ضعيفة جدًا- أنهم قدموا مثل هذه المساعدة له ﷺ أيضًا، مع أن النبي ﷺ وأصحابه قد تكبدوا عناء السفر مرارًا إذ لم يجدوا ما يركبون، ففي مرات كثيرة أتوه يبكون ويسألونه أن يعطيهم ما يركبونه ليخرجوا معه، ولكنه لم يجد لهم ما يركبون. فخرجوا معه ﷺ مرات كثيرةٍ حُفاةً في أسفار طويلة شاقة (التوبة:92، والبخاري: كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع)، ولكن هؤلاء الجن لم تلن قلوبهم القاسية رغم رؤية ما تعرض له النبي ﷺ وصحابته من آلام. كانوا يحملون سليمان ؏ وجنوده من مكان إلى مكان، ولكن الغريب أنهم لم يحملوا ولو عشرين من فقراء المهاجرين إلى ساحة القتال! يقول البعض أن الجن كائنات من غير جنس الإنسان، وقد آمن هؤلاء بنبينا وبموسى وسليمان – عليهم السلام (الدر المنثور). ولكن علينا أن نرى ما إذا كان القرآن يصدق هذا المعنى أم لا؟ إذا كان الكلام عن الجن استعارة فلا بد أن القرآن الكريم قد بيّن مراده منها، وإذا لم نعتبر هذا الكلام من قبيل الاستعارة وقع التناقض بين آيتين من القرآن الكريم وحصل فيه الاختلاف. فعلينا أن نرى ما إذا كان اعتبار هذا الكلام استعارة يؤدي إلى الاختلاف في القرآن الكريم أم العكس هو الذي يؤدي إلى الاختلاف فيه؟ وليكن معلومًا أن الذين لا يعتبرون هذه الآية استعارة ويقولون أن الجن كائنات غير مرئية مثل الشيطان، وكما أن الشيطان كائن منفصل عن الإنس فالجن أيضًا كائنات غير الإنس (الرازي). والجواب أن هناك إجماعًا لدى المفسرين على أن الشياطين المذكورين في قوله تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) هم اليهود ورؤساؤهم (القرطبي)؛ فإذا كان الإنس يمكن أن يسمَّوا شياطين فلماذا لا يسمَّون جنًّا أيضًا؟ كذلك قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (الأنعام: 113).. أي قد جعلنا لكل نبي أعداء من شياطين الإنس ومن شياطين الجن الذين يحرّضون الناس على النبي وجماعته.
لقد صرح الله هنا أن الشياطين يكونون من الناس أيضًا. فإذا أمكن أن يكون هناك شياطين الإنس فكيف لا يكون هناك جنّ الإنس؟ بمعنى أنه كما يمكن أن يولد من الناس من يسمون شياطين فكيف لا يمكن أن لا يكون من الناس من يسمّون جنًّا؟ لقد ثبت مما سبق بيانه أن الجن لم يكونوا في قبضة سليمان فحسب بل لقد آمنوا بموسى وبنبيّنا ﷺ أيضًا. والآن نرى إلى من بُعث النبي ﷺ؟ يقول الله تعالى لنبيه ﷺ: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) (النساء: 80). فلو كانت كائنات خفية تسمى جنًّا قد آمنت بالنبي ﷺ فكان من المفروض أن يُقال: “وأرسلناك للناس والجن رسولاً”. وإذا كان النبي ﷺ مبعوثًا إلى الناس فثبت أن الجن الذين قِيل هنا إنهم آمنوا به ﷺ إنما كانوا من جن الإنس، وليس كائنات غريبة خفية كما يتصورها الناس. كذلك ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله ؓ أن النبي ﷺ قال: أُعطيتُ خمسَ خصال لم يُعْطَها نبي قبلي، وإحداهن: “كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة.” (البخاري: كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ جُعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا) لقد صرح النبي ﷺ هنا بشكل حاسم أنه لم يوجد بين الأنبياء السابقين نبي واحد بُعث إلى أحد سوى قومه. ولكن هؤلاء المفسرين يقولون أن سليمان ؏ قد بُعث إلى الجن والطيور والنمل أيضًا. ولو كان هذا صحيحًا لصار سليمان أفضل من النبي ﷺ -والعياذ بالله- إذ كان مبعوثًا إلى الإنس وغيرهم أيضًا، بينما كان نبينا ﷺ مبعوثًا إلى الإنس فقط. ثم إذا كان هؤلاء الجن من غير الإنس فكيف قال الله ﷻ في القرآن الكريم: (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ) (الأنعام: 129). لقد تعبنا بحثًا عن هؤلاء الجن الذين يتحدث عنهم الناس ولا نجدهم، ومع ذلك يعلن القرآن الكريم هنا أن الجن قد جعلوا معظم الناس في قبضتهم. الواقع أن المؤمنين بمثل هؤلاء الجن يرهقون أنفسهم بكثرة الاعتكافات والتأملات والأوراد، فيصابون في عقلهم حتى يتخيلون أصواتًا، فيقولون: ها قد جاءنا الجن. والواقع أنه لا يأتيهم أي من الجن، وإنما يفقدون حواسهم ويصابون بنوع من الجنون. أما الإنسان الذي يكون عقله متوازنًا فلا يأتيه الجن أبدًا. على أية حال، سيقول الله تعالى للجن يوم الحشر أنهم جعلوا كثيرًا من الناس تحت قبضتهم واستغلوهم كثيرًا، ومن ناحية أخرى نقرأ في القرآن الكريم قول الله تعالى: (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ) (الأنعام: 129).. أي سيقول أصدقاؤهم من الناس لربهم ربنا انتفعَ بعضنا ببعض. ولكن الأمر الواقع أنك إذا سألتَ أهل قريتك ما إذا كان خمسون بالمئة منهم جلبوا أي نفع من الجن، فلن تجد ولا واحدًا منهم يقول إنه قد انتفع من الجن وأنه على صلة بهم. فثبت أنه ليس المراد من الجن هنا أي كائنات غريبة دون الإنسان، بل المراد من الجن بعض من الناس أنفسهم. وبالفعل ترى بين جنّ الإنس صداقات كثيرة. فمن الخطأ تمامًا الظن أن هؤلاء الجن كائنات غير مرئية غريبة عن الإنسان. كلا بل إن الجن الذين آمنوا بالنبي ﷺ كانوا أيضًا أُناسًا، وقد نصروه كما نصره غيرهم من الناس. أما إذا اعتبرناهم كائنات غير إنسانية فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا والذي يجب أن يجيب عليه القائلون بالجن هو: لماذا لم ينصر هؤلاء الجن رسولنا ﷺ رغم إيمانهم به، ورغم أن الله تعالى أمر بنصرته ﷺ؟ الأمر الواقع أن فئة من الناس يكونون في غاية الإباء والتمرد فلا ينقادون لأحد، ولكنهم عندما يأتون الأنبياءَ يتغير حالهم رأسًا على عقب فجأة. وخير مثال على ذلك هو عمر ؓ، فكان في البداية لا يتحمل سماع كلمة عن الإسلام حتى استشاط غضبًا ذات مرة، فامتشق حسامه وخرج بنية قتل النبي ﷺ. ولكنه لما أتاه أخذ يرتعد هيبةً له ﷺ. (السيرة الحلبية: المجلد الثاني، باب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة) فثبت من هنا أن هناك أناسًا من ذوي الطبائع النارية، ولكنهم عندما يأتون الأنبياءَ تخمد نارهم وتهدأ حدّتهم، وهؤلاء أيضًا يسمَّون في اللغة العربية جنًّا. كما يراد بالجن عِليةُ القوم الذين يقيمون في القصور وراء حراسة شديدة فلا يصل أحد إلى أبوابهم بسهولة، فقد ورد في القواميس: جِنُّ الناس: معظمهم. إذًا، فكلمة الجن في قوله تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) قد أُطلقت على فرقة خاصة لسليمان ؏، إذ كان رجالها من أسر عريقة، وكانوا معتادين على الإقامة في القصور وراء حراسة مشددة، وبالتالي استحقوا أن يُسمَّوا جنًّا أي الذين لا يراهم الناس عادة كونهم يعيشون بعيدًا عن أنظار القوم. فقد ورد في القاموس أن الجن يُطلق على “كل ما استتر عن الحواس” (الأقرب).. أي هم القوم الذين لا تسمع آذان الناس أصواتهم ولا ترى عيونهم أشخاصهم وكأنهم يعيشون منعزلين عن العالم، وبتعبير آخر، هم عِلية القوم وأمراؤهم؛ وقد ورد هذا المعنى أيضًا في القواميس بكل وضوح. إذًا، كان قوام جنود سليمان ؏ فرقًا ثلاثًا: فرقة الحرس الخاص من عِلية القوم، وفرقة عامة الناس، وفرقة الرجال الروحانيين.
المرجع: موقع بساط أحمدي
Leave A Comment