قصة حسام الحزين قصة واقعيّة :
عندما يبدأ الطفل برسم خطواته الأولى على الأرض، ويصبح باستطاعته قول الكلمات المفهومة تبدأ مرحلة اكتشاف ما حوله بإشراف أهلهِ أو من هُم في حكمهم، ولكنْ! لكلّ قاعدة استثناء، وكثيراً ما تكونُ الاستثناءات شديدة القسوة والغرابة، فبعض العائلات يحمّلون أطفالهم أعباء تفوق طاقاتهم منذُ الصّغَر، فيدفعونَ بهم للتسوُّل أو البيع غيرَ آبهين بالمخاطر التي قد تحيط بهم، فَالهَمُّ الأكبر لهذه الشَّريحة هو الرّبح والحصول على المال بأيِّ ثمن!
وُلِد حسام لعائلة مفككة، الهم الوحيد لأُمّه هو التزيُّن والظُّهور بمظهر الامرأة المُنَعَّمة أمام جاراتها وأقاربها، أمَّا والده فقد كان رجلاً بسيطا يعمل كفاف يومه، قليل التَّدبير إن لم نقُل عديمه، لا يرتفع صوته في البيت مهما حصل، لا يتدخل بزوجته مهما بدرَ منها اتّقاءً لشرَّها وليدرأ أذنهُ مِن صوتها المتهدّج، أبو حسام ليس غبيَّا البتَّة، ولكنه أدركَ تماماً حجمَ مُصابه بزواجه من تلكَ الزَّوجة المتسلّطة القاسية فعمل مُكرهاً على مبدأ: (إذا كانَ ندُّكَ نذلاً فانسحب منَ المعركة…….)
فانسحب بالفعل من كلّ الشُّؤون التي تخصُّ عائلتهُ فلا يُبدي رأيهُ بأي أمر، ولا يعترضُ على أي تصرُّف يبدرُ من زوجته، ولا يُدافع عن أحدٍ من أبنائهِ مهما تعرَّضوا للقهرِ والتَّعنيف، وهكذا صارت صباح معَ الوقت هي الآمرة الناهية، وهي مصدر الأوامر والرُّعب بالنّسبة لأبنائها.
كانت وطأة ذلكَ أشدَّ ما تكون على حسام لأنَّهُ الابن الأكبر، أما بقية إخوتهِ وعددهم ثلاثة، وهم سهام وريهام وصبيٌّ صغير اسمهُ أحمد، هؤلاء الثَّلاثة أخذوا العبرة من مشاهد العُنف والظُّلم التي كانت تُطبَّق على أخيهم أمام أعينهم فما كان منهم إلّا أن احترسوا وصاروا لا يفعلون إلّا ما يؤمرون….
لم ترَ صباح في حسام ولا في بقيَّةِ أبنائها أطفالاً ضعفاء بحاجةٍ إلى العطف والرّعاية والتوجيه، بل رأت فيهم أعباءً إضافية عليها، منذُ أن بلغَ حسام الخامسة من عمره راحت أمُّه تشتري له علب البسكويت والعلكة وتجبرهُ على بيعها،
وفي بعض الأحيان كانت تصنع له حلوى السميد فيتجوَّل في الأزقَّة والحارات ليبيعها كلَّها، وممنوع أن يعود إلى البيت ومعهُ قطعة واحدة لم تُبَع……!
لذلك كان حسام كلَّما بدأ الليل بإسدال ستائرهِ راح يترجَّى الناس أن يشتروا منهُ ويخبرهم بأنَّه سيُعاقب إن لم تُبَع كل القطع، فمنهم من يتعاطف معهُ ويشتري، ومنهم من لا يعبأ بكلامه ويظنون أنَّه أسلوبٌ منه ليتمكَّن منَ البيع…
في بعض الأيام كانَ حسام يبيعُ كل القطع فتكافؤه أمّه مكافأة غير مجزية لم تسعد قلبهُ يوماً ….
وفي كثيرٍ منَ الأحيان كان يعود إلى منزله ببعض القطع فيعاقبُ أشدَّ العِقاب.
كان الجيران يسمعون صراخه عندما كانت أمُّه تضربهُ بكبل مجدول صنعته خصّيصاً لمعاقبة أبنائها..
عندما كانَ حسام في المدرسة كان تلميذاً مهملاً جداً، لا يكتبُ واجباته المدرسيّة ولا يحفظُ دروسهُ، كما أنَّه كانَ يحتال على رفاقه ليحصلَ على طعامهم أو قطع البسكويت التي تخصُّهم، أبناء حارته وكل من عرفوه أطلقوا عليه لقب حسام الحزين، لأنَّهم لم يروهُ مرّةً سعيداً.
قصة حسام الحزين قصة واقعيّة:
كبُرَ حسام وأصبح في العشرين من عمره، فاختصرَ الطريق على نفسه وتطوَّع في الجيش، وبدأ حياته العملية، كانَ الضابط المسؤول عنهُ يحبُّهُ كثيراً ويتعاطف معهُ.
عندما بلغَ حسام الخامسة والعشرين من عمره، قرر الزَّواج، وتحدَّث مع أمّهِ بهذا الشَّأن فما كانَ منها إلّا أن اقترحت عليه زواج مريم ابنة خالته، فكَّرَ حسام في خلده، ولمَ لا مريم فتاة جميلة وذكية ولطيفة جدّاً ولا بدَّ أنَّهما سيعيشانِ حياةً سعيدة.
بدأ حسام بزيارة منزل خالته بشكل متكرّر، وتقرَّب منهم أكثر، فشعرت مريم بنيتهِ وأنَّه يفكّر بالارتباط بها،
بعد فترة تمَّ الزّواج بالفعل وعاش حسام حياةً سعيدةً مليئةً بالسَّكينة والهدوء، ولاحظَ كلَّ من عرفهم مدى السَّعادة التي تغمرهم.
تبدَّل حالُ حسام فصارَ يضحك، ويبتسم ويقبِلُ على الحياة باندفاع وشغف، بعدَ عدّة شهور كان الفرح يحوم في بيت مريم وحسام، خبر سعيد مريم حامل، حسام سيصبح أباً راحَ يحدّثُ أصدقاءَه ومعارفهُ، والضّابط المسؤول عنهُ في عملهِ ويخبرهم: سأُسميه محمد إذا كان صبيّاً ووردة إن كانت بنت، سأكون أباً عطوفاً، لن أتركَ أولادي يذوقونَ الذلَّ والإهانات التي ذقتها في حياتي، سأدرّسهم جيّداً، لن أنقِصَ عليهم شيئاً …..
وبعدَ تسعة شهور وضعت مريم مولودها الأوَّل محمَّد، كانَ جميلاً ويتمتَّع بصحةٍ جيّدة، بعد مضي عدَّة أيام من ولادتهِ بدأ أهلهُ يشعرون بأنَّهُ لا يستجيبُ للأصوات ولاحظَ كل مَن زارهم ليهنّأهم ذلك، وعندما راجعوا أحدَ الأطّباء للتأكّد من حالتهِ أخبرهم الطَّبيب بأنَّ الطفلَ يعاني من الصمم!
عادَ الحزن إلى قلب حُسام مجدّداً، وصارَ مِزاجهُ معكَّراً دائماً، كانَ يبكي بحرقة ويقول لمريم: لن أسمعهُ يناديني بابا، ولن يناديكي ماما لأنَّ الأصم يعاني منَ الخرس، كانت مريم امرأةً مؤمنةً صابرة، راحت تهدّئ من روع زوجها وتقول لهُ ليسَ بإمكاننا سوى القبول بقضاء الله وقَدَره، وسننجب طفلاً آخر معافى بإذن الله، بعد مرور حوالي السَّنتين حملت مريم بحملها الثَّاني، كانت الفرحة أقل وفيها توجُّس، وكانَ الألم على ابنهما محمَّد يعصر قلبيهما.
وضعت مريم مولودها الثّاني وكانَت بنتاً نعم بنت لقد وُلِدَت وردة صمّاء كأخيها، وأخبرهم الطَّبيب بأنَّ مرضَ طفليهما سببهُ الوراثة، وذلكَ لأنَّ مريم وحسام أبناء خالة، وكذلك أخبرهم بأنَّ احتمال أن ينجبا طفلًا سليمًا ومعافًا هو احتمال ضعيف جدًا وقد لا يحصل أبدًا……
قرَّر حسام أن لا ينجب بعد هذين الولدين أبداً تفادياً لولادة طفل أصم آخر.
بعد مُدَّة تأقلمت مريم مع وضع أبنائها وعندما كبروا قليلاً سجلتهم أمهم في مركز خاص لذوي الاحتياجات الخاصة، وبدأ الطّفلان يتعلّما لغة الإشارة، لقد كانا في قمّة الجّمال والذَّكاء كانت مريم سعيدةً جداً بتطوُّر طفليها وقدرتهما على التعلُّم كأقرانهما.
ظلَّت الرّغبة بسماع كلمة بابا تلِحُ على رأس حسام، وكان يحدّثُ أصدقاءه بذلك، وما كانَ من بعضهم إلّا أن نصحوه بالزّواج مرّةً ثانية، رفضَ في البداية رفضاً قاطعاً، فهو يحبُّ مريم كثيراً ولا يريدُ أن يخسرها أو يجرحَ شعورها.
مضت بضعة سنوات كبرَ االطّفلان، مريم سعيدة بهما جدّاً لقد ملأا عليها الدُّنيا فصارت مشغولةً دائماً بهما تأخذهما إلى المدرسة وتُعيدهما إلى البيت، وفي أيام العُطَل تخرجُ للتنزُه معهما، انشغلت عن حسام بهما، فبدأ يفكرُ بالزّواج الثاني، وفكّرَ بأنَّ مريم ستعذرهَ لا محال، وستمضي بقية حياتها تعتني بطفليها، وهو سيتزوجُ بامرأة أُخرى وستنجب أطفالاً أصِحّاء، ولابدَّ من أنَّ مريم ستحبُّ أطفالهُ معَ مرور الوقت، أعجبتهُ الفكرة وراح يستشير النّاس فأيَّدوه على الزَّواج الثّاني.
بحثَ عن فتاة تناسبهُ فدلَّه أحد أصدقائه على فتاة جميلة لكنها تكبرهُ بسنتين، ولكنّه قرّرَ أن يتقدَّمَ لخطبتها على الرغم من ذلك، لأنَّ فتاةً تصغره سنًّا قد ترفض الزواج منه لأنّه متزوّج ولديه عائلة.
زارَ حسام أهل الفتاة وتعرَّفَ عليهم، وبعد مُدّةِ قصيرة كرّرَ الزيارة، وشرحَ لهم وضعهُ وأعربَ عن نيَّته بالزواج من ابنتهم سُعاد، بعد مدّة وجيزة وافقت سُعاد على الزواج ، عادَ يومها حسام إلى بيتهِ سعيداً جدّاً على غير العادة، فأوجست مريم خيفةً مِن سعادتهِ المُفاجئة وسألتهُ عن السّبب فلم يشأ أن يُماطلَ كثيراً واعترفَ لها بأنّهُ عازمٌ على الزّواج.
مريم حزنت أشد الحزن واستشارت والدتها فأشارت عليها بأن تخرج من بيت زوجها وأن تترك الطفلين، كمحاولةٍ منها للضغط عليه لعلَّهَ يعدِلُ عن قراره.
حسام أخذ الطفلين إلى بيت والدتهِ وبقيا هناك فترة ريثما تتم مراسم الزَّواج الجديد، كادت مريم تموتُ غيظاً من زوجها، وملأها الشوق لولديها الذين توقفا عن الذهاب إلى المدرسة في تلكَ الفترة، لأنَّهُ لا يوجد من يهتمُ بهما ذاكَ الاهتمام الذي تلقياهُ من أمّهما مِن قبل.
كل ذلك لم يردَع حسام عن قراره، كان كل همِّه أن ينجب ولداً معافاً يناديه بابا!
تزوجَ وكانَ سعيداً جداً في يومِ زفافه، عاش مع سعاد فترةً منَ الزمن في بيت استأجرهُ لها، ولكنَّ سعاد ليست كمريم قنوعة وهادئة، بل كانت متطلّبة ودائمة اللَّوم والتَّذمُر، بدأ حسام يشعر بالفرق بينَ زوجته الأولى وزوجته الثَّانية لقد افتقد السَّكينة والطمأنينة اللتين كانت تمنحهما لهُ مريم، ولكن أين المفر لقد تزوج وكتب لها في عقد الزواج مبلغاً كبيراً في حال وقوع الطَّلاق.
قصة حسام الحزين قصة واقعيّة:
راحَ الحنين إلى مريم يغزو قلبَهُ، وكان يحزن كثيراً على أطفاله اللّذَين كانا يُلِحّان عليه بلغتهم الخاصَّة بأنَّهما يريدان أمهما.
مضت عدّة شهور وسعاد لم تحمل، قرَّرَ حسام زيارة بيت خالته ومراضاة مريم، وعندما ذهبَ إليهم كانت مريم غاضبةً منه كثيراً، ورفضت التَّحدُّثَ إليه في البداية، ولكنّه توسَّلَ إليها بأن تسمعهُ، وشرحَ لها كلَّ ظروفهِ وحدَّثها عن مدى شوقهِ لها، تغيَّرت أسارير وجهها وقرّرت العودة معهُ.
عندما علمت سعاد بأنَّ حسام أعاد زوجته الأولى إلى بيته، خرجت من منزلها معلنةً بأنّها تودُّ الانفصال عنهُ.
شعرَ حسام بالهمِّ يخنقهُ، وتذكَّرَ المبلغ الكبير الذي سيترتَّب عليهِ دفعه لها في حال وقع الطَّلاق، فسارعَ لمصالحتها، فطلبت منهُ أن يدفع لها مبلغاً منَ المال لتقبلَ بالعودة، فذهبَ واستدانَ المبلغ من صديق لهُ ودفعهُ لها.
رجعت سُعادُ إلى منزل زوجها وصارَ حسام يمضي أسبوعاً في منزله الذي فيه زوجته الأولى، وأسبوعاً في منزله الذي تسكن فيه سعاد، كانَ مشتّتَ الذّهن فلقد بدأت الأعباء الماديّة الإضافيّة تُرهقه.
بدأت ديونهُ التي استدانها من أصدقائه تزدادا شيئاً فشيئاً، وكانَ النّدم يسيطر على عقله، ويفكّر دائماً بأنّه كانَ عليه ألاّ يتزوّج سعاد بل كان عليه أن يحبَّ أطفالهُ ويعتني بهم مع مريم.
لم يُطل الفرح المكوث في قلب حسام ولو لمرّة، بسبب تسرعه وقراراته غير المدروسة، في أحد الأيام اتّجه حسام إلى منزله الذي تسكنه سعاد، كان اليأس يملأُ قلبهُ، دخلَ إلى البيت وألقى على سعاد التَّحيّة فردَّت عليه بجفاءٍ وقسوة، فسألها عن سبب غضبها فبدأت تصرخ في وجهه وتعدّدُ لهُ جوانب تقصيره معها وتشرحُ لهُ عن مدى الظُّلم الذي تتعرَّض لهُ بسبب زواجها منهُ، وأعربت لهُ عن ندمها الشَّديد لأنَّها وافقت على الزَّواج منه.
في هذه الأثناء فقدَ حسام قدرته على التحكّم بغضبه، وراح يصيح في وجهها أنتِ لا تصلحين لأن تكوني زوجة، أنا الذي ندمت لأنني تزوَّجتك، زوجتي مريم امرأة هادئة ورزينة، كانت ترعى أطفالي بكل حب وحنان، وكانت تحبني حبّاً غير مشروط، لا تريد مني مالاً ولا يهمها ترّاهات الحياة الزائفة، إنّما كانَ كل همّها أن أكون سعيداً.
وهي مؤمنة وتعرف بأنَّ وضع أطفالنا هو ابتلاء منَ الله ولقد تقبَّلت الابتلاء بكل صبرٍ ورضاً.
بعد كل هذا الصياح والعِراك الذي نشبَ بينَ سعاد وحسام امتلأ قلبُ سعاد بالغيرة والحسد من مريم، لأنَّها استشعرت مدى الحبّ الذي يُكنُه حسام لها، فراحت تصرخُ في وجه زوجها قائلةً: طلقني، طلقني …..
كادَ حسام يطلّقها حينها ولكنَّه تذكّر المبالغ الباهظة التي ستترتّب عليه بعد الطّلاق فما كانَ منهُ إلاّ أن أخرجَ مسدّساً من جيبهِ ووجهه إلى سعاد وقالَ لها أنا أكرهكِ أيتها الأنانية التافهة، خافَت سعاد وحاولت الفرار من أمامهِ فأطلقَ عليها النَّار
وبعدها سدّدَ المسدس إلى رأسه وقتل نفسَه نعم لقد أنهى حسام حياته ومعاناته بالانتحار.
سمع الجيران صوت إطلاق النّار فسارعوا لخلع الباب والدّخول، وأُصيبوا بالذّهول لِما رأوا، سارعا بطلب الإسعاف والشّرطة.
فارقَ حسام الحياة آخذاً معه مآسيه ومعانياتهِ كلّها، أمّا سعاد فلقد أصيبت بالشلل ولم تمت، فلقد استقرّت الرّصاصة في عمودها الفقري.
انتهت مآسي حسام بمأساة، جميع من كانَ يعرفهُ كانَ حزيناً عليه كثيراً وخاصّةً مريم وأطفاله، سعاد أمضت بقيّة حياتها في بيت أهلها يُلازمها الألم والشّلل والنّدم.
أ. عائشة أحمد البراقي
Leave A Comment