لا تتركيني يا أمي:
جرَت أحداثُ هذه القصَّة في عام 1945 حيثُ كانت الحياة قاسيةً بكلّ تفاصيلها، كانت عائشة صبيّة جميلةً لبقةً في التَّعامل وتحمل بين ضلوعها قلباًنادرَ الحبّ والعَطف، كانت تعمل كصانعة ( خادمة ) لدى عائلة مرموقة في المدينة وذلك بسبب فقرِ أهلِها وضيق حالهم، وكان أهلُها في كلّ صيف يذهبون إلى مكان إقامتها ليس للاطمئنان عليها بقدرِ ما أنهم يَذهبون ليتقاضوا أجورها، ورغمَ كلّ هذا كانت نفسها راضيةً جداً فسعادتها من سعادة أهلها وإخوتها، ولشدَّة لُطفِها ورِقَّتها لم تَستطع العائلة الثريّة معاملتها إلاّ كابنة لهم …..
في كثيرٍ منَ الأحيانْ كانوا يَجلسون لتناول الطعام فتبكي الصبيّة الرقيقة فجأةً فيَسألونها عن سبب بكائها فتجيب: أنا آكل هُنا وأَهلي في القَرية جائعون، فيسارعون إلى شراءِ الطَّعام والشَّراب والذَّهاب بِرفقتها لزيارة أهلها، وقد اعتاد أهلها وإخوتها على مفاجآتها السّارّة وكانت قلوبهم تَرقص فرحاً لمجردِ ذكر اسمها.
وفي أحد الأيّام ذهَبت إلى القرية لزيارة أهلها وبيقت عندهم عدّة أيّام وكانَ عُمرها آنذاك ستة عشرَ عاماً، وخلال تلك الزّيارة رآها شابٌ من شُبَّانِ قَريتها فسارع لخطبتها، وبعدَ فَترة وجيزةٍ تمَّت المُوافقة على الشاب.
بعدَ حوالي الشّهر تقريباً حضَرت العائلة التي كانت الصبية تعملُ لديهم لأخذها معهم،
وبادرَها الرَّجل بقوله: لقد اشتاق
لكِ الأولاد، فابتسمت برقةٍ وقالت وأنا أيضاً اشتقتُ لهم، وفجأةً قاطعَ أبوها الحديثَ قائلاً ولكنّها لن تذهبَ معكم بعدَ اليوم فلقد تمَّت خِطبتها مِن شابٍ منَ القَرية….
صُدمَ الرَّجل وزوجته وسالت دموع زوجتِه على الفور وقالت لها: لقد أصبحت كفردٍ منّا، وتابعت قائلةً: الفتياتُ كثيراتٌ في الدُّنيا ولكنّ النبيلاتِ مثلك قليلات،عمَّ جوٌّ من الحُزن في أرجاء الغرفة………
بعدها تودّعوا وغادرت العائلة وكانت كلمة الرَّجل الأخيرة التي قالَها وهوَ يُغادر: لا أعرفُ كيف أُخبر أبنائي بأنّه لم يعد هناكَ عائشة ………
بعد فترةٍ وجيزة تزوّجت الفتاةُ من خطيبها خالد، كانَ شاباً قويَّ البُنيةِ وسيماً ملتزماً، ولكنَّه كانَ حادَ الطّباع كثيراً.
كانت عائشة تحملُ قلباً عطوفاً مُسامحاً لذلكَ كانتْ الأمور تسيرُ بينها وبين زوجها بسَلام تام ظاهريّاً، ولكنّ قَلبها الرَّقيق كانَ يتألّمُ بصمتْ، ولمْ يدرِ به أحدٌ غيرها، لقد كانَت تتمتَّع بقسطٍ هائلٍ منَ الصَّبرِ الجّميل الجَّميل …
أَنجبت أربعة أبناء، بنت وثلاثة أولاد كان ابنها البّكر يُدعى (أحمد )، كانت مولعةً بهِ كثيراً لأنّه كانَ يعطِف عليها رغمَ صغر سنّه .
بعدَ مرور بضعِ سنواتٍ انتشر مرض (التيفوئيد) في القرية، مرضَ ابنها الأصغر (محمَّد) وبعد فترةٍ منَ المرض فارقَ الحياة، وقبلَ أنْ تنسى حُزنها على ابنها (محمَّد) مرِضَت ابنتها (فاطمة )بنفس المرض، كانَ أحمد عطوفَ القَلب كأمّه، ولكنه كان جسوراً كأبيه ولايُبدي حقيقةَ عواطفه للآخرين، ولا يُعبر عن مشاعره لأحد لأنّه كانَ يظنّ أنّ ذلك من علائِم الضَّعف.
كانَ (أحمد) يحبّ أخته ( فاطمة) كثيراً، وكان يقضي وقتاً طويلاً في رِعايتها.
كانت عائشة لاتُفارق فِراش ابنتها ليلاً ولا نهاراً وكذلكَ كانَ أحمد أيضاً مُلاصقاً طوالَ الوَقت بأمّه يحاول أن يستمدَّ مِنها القوّة ليستطيع تحمّل كل ما يجري معهم.
كانتْ الأمُّ تبكي بسببِ وفاة ابنها الصَّغير ( محمّد ) وكذلك بسببِ مرضِ ابنتها …..
كانَ أحمد ينظر بعيونه اللاَّمعة إلى أمّه والحُزنُ يملأُ قلبَه، ويحاول أن يواسيَها ولكنَّه لايعرفُ ما يقولُه لها، بدأت علامات الاحتضار تبدو على الطّفلة المَّريضة، وبعدَ أيَّام قليلة فارقت الحياة، حزن أحمد وأمه كثيراً ………
و بعدَ حوالَي أسبوعٍ من وفاةِ الطّفلة بدأت علامات المَرض تَظهر أيضاً على ابنها ( علي ) خافت عائشة كثيراً، فالمَوت يخطف أبناءها مِن أمام عينيها الواحد تلوَ الآخر وهيَ لا تستطيع أن تفعلَ لهمْ شيئاً.
في إحدى اللَّيالي البَاردة الحالِكة الظَّلام صاحَت عائشة مِن أعماقِ قَلبها: “يا رب خذني أنا واترك ابني (علي ) “
انهالت دموعُها من عينيها فضمّها أحمد إلى صدره الصَّغير وقالَ لها: “أمي لا تقولي هذا أنا لا أستطيع العيش بدونك “
بعد مرور عدّة أيّام، تَعافى (علي )مِن مرضه تماماً، ومَرضت عائشة بشكلٍ مُفاجئ، ضجّ البيت بإخوتها وأخواتها من أجلِ رعايتها وكانَ كلُّ واحدٍ منهم يأتي بزجاجةِ دواءٍ جديدة أو
حبوبٍ على أنَّ هذا الدَّواء نافعٌ لحالتها، كانَت الحُمى تكادُ تفجّر جسَدَها المُنهَك، كان الفصلُ شتاءً، و كان الثّلج يُغطّي كلّ شيءْ، كانت تنظرُ منَ النَّافذة وتقول لإخوتها بلهفة:
أرجوكم اجلبوا لي القَليل مِن الثَّلج، كانَ إخوتها يرفضونَ ذلكَ بشدّةٍ مبرّرينَ رفضهم بأنَّ تناولَ الثَّلج سيُضرُّ بصحَّتها ………..
واستمروا بتحضير الكِشك والحَساء السَّاخن، وكانوا يجبرونَها على تناول الطّعام الحار.
وكانت سخونة الطّعام والحُمّى تحرقانِها منَ الدَّاخل، كانَ أحمد قد أصبحَ في الصفّ الأوّل في المدرسة، وفي أحد الأيام عادَ أحمد منَ المدرسة برفقة ابن خالهِ فسألَ الخَال ابنه أرِني ماذا أخَذتَ اليَومَ في المَدرسة يا بُني، وبدأَ يدرّسه،
لاحظت عائشة رغمَ مرضها إهمال أخيها لابنها أحمد فقالت له بحزنٍ شديد: ” لماذا تدرّس ابنك وتهمل ابني؟ حسناً إن تعافيت سأُريكم كيفَ سأعتني بأحمد ….
وإن مِتُّ فأسلّمه إلى الله وهو كفيل أمرِه …. ذُهِلَ أحمدْ من كلامِ أمّه، وكان لهذا الكلام أثرٌ كبيرٌ في حياته في ما بعد. بعد مرور أسبوعين تقريباً تدَهورت أحوالُ عائشة الصحيّة كثيراً، وبعد ساعاتٍ موجعةٍ منَ الاحتضار فارَقَت عائشة الحَياة وسَطَ بُكاءٍ وعَويلْ، واجتمع إخوتُها وأمّها وزوجها من أجل تشييع الجنازة، وهناك في مكان قريب مِنهم كان أحمد قد جمعَ أدويّة أمّه كلّها ووضعها على حجرٍ وأمسك بيده حجراً آخرَ وراحَ يدقّ الزجاجات والحبوب ويسحقها بقوّةٍ، ويقول بصوتٍ تَخنقه الدّموع قاصِداً الأدوية: ” أنتم من قتلتم أمّي ” …
لقد كان الكل مشغولاً عَنه بالتشييع، وهو شيّعَ أمَّه على طريقته.
عائشة أحمد البراقي
Leave A Comment