أنا وأُختي نعيش في مدينتين مختلفتين، كنتُ أزورها بينَ الحينِ والآخر وأبقى عندها ليومين أو ثلاثة أيّام برفقة أبنائي، أختي ميسورة الحال لكن أنا أعيش كفافَ أيامي والحمد لله على كلّ حال، في الحقيقة المواقف المخزية لا تفارق أيّامي وغالبية تلكَ المواقف سببها ضيق الحال.
في أحد الأيّام كان الفقر قابعاً وسط بيتي لايريد أن يبرح ولا ساعة، تمرُّ أيّام الفقير بينَ الحسرة والحرقة والدّموع وكثير منَ الأمنيات المؤجّلة، اتّصلَتْ أُختي بي ولم يكن صوتها مرتاحاً أبداً قلِقتُ عليها كثيراً، تحادثنا قليلاً ثمَّ طلَبتْ منّي أنْ أزورها وأنّها تحتاجُ لأن أكونَ بقربِها، وكانت كلمة أنا بحاجة ماسّة لكِ تُلغي لديَّ جميع الاعتبارات ولاشيء يمنعني عن الذهاب إليها سوى الموت وفقط الموت.
قلت لأُختي سآتي غداً لكنّها أصرت عليَّ بأنها تريد مني الذَّهاب إليها اليوم حَصراً فقلت لها بأنَّ المواصلات من هنا إلى مكان سكنها غير مؤمّنة بعدَ هذه السَّاعة منَ النّهار فقالت لي إذن أُطلبي من زوجكِ بأن يوصلكِ إلَيّ، فتردَّدتُّ قليلاً لأنني أعرفُ ما يُكابدهُ زوجي من عناء لتوفير وقود للسيّارة فقُلتُ لها ولكنَّ وقود السّيّارات غير متوفّر في هذه الأيّام كثيراً كما تعلمين، وأنّ زوجي يحصلُ عليه بشق الأنفس وكثيراً ما يبيتُ اللّيلَ بطوله في محطّات الوَّقود ليستطيع الحصولَ على الوقود………!
زوجي يعمل كسائق تكسي ( خدمة توصيل ) ولذلكَ فنفاد الوَقود من سيارته يعني نفاد الطَّعام من بيتنا، فالأمر مهم جداً بالنّسبة لنا.
وبالعودة إلى حديثي معَ أختي على الهاتف، بعد كلّ ذاكَ الحوار معها طلَبتْ منّيْ الحُضور إليها معَ زوجي، وأخبرتني بأنَّها ستدفعُ لهُ أُجرةَ طلبهْ، ( أي أنَّ ذهابي لعندها سيكون كما لو أنَّ زوجي قد أوصلَ زبوناً غريباً……..
طلبتُ من زوجي أن يوصلني وأخبرتهُ بأنَّ أُختي ستدفعُ له أجرة الطَّلَب، فسكتَ قليلاً وكانَ سكوتهُ عبارة عن صراع داخلي بينَ العِفة والعوَز، بينَ الواجب والفاقة، بينَ المألوف والحاجَة، وبعد أن انتصرتْ أفكاره التي تقول بأنّه لابدَّ بأن يقبلَ بهذا العَرض لأنَّ المجاملة ستودي بنا إلى الجوع والحاجة.
قررنا الذّهاب وانطلقنا، ولمّا وصلنا دخلنا وسلَّمنا عليهم وجلسَ زوجي حوالي النّصف ساعة عندهم وعندما أوشكَ على الذّهاب، قلتُ لأُختي على انفراد، أختي هل تسمحينَ بأن تعطيني المال الذي قلتِ بأنّك ستدفعيه لزّوجي مقابل إحضارنا إلى هُنا فقالت لي بالطَّبع وسارعت وأحضرتْ النّقود وأعطيتهم أنا لزوجي وانْطلَقْ ……..
جلستُ أنا وأُختي في إحدى الغُرَف على انفراد فقالت لي أختي لقد كنتُ حامل وأنا الآن مهدّدةٌ بالإجهاض، وهذا مادفعني لأن أُصرَّ عليكِ بالمجيء إليّ، أصابني لسماع ما قالت الدّهشة والصّدمة والألم والحزن العميق، أُختي لديها أربعة أولاد وهي لن تتأثَّر كثيراً إن أُجهِضَ جنينها، وخاصَّةً وأنَّ عمر الحمل قليل جدّاً لم يتمّ الشهر والنّصف، لكنها كانت بحاجتي لأُساندها وأقف إلى جانبها أثناءَ محنتها تلك، لأُخفّفَ عنها آلامها وأُواسي أحزانها، في تلكَ الأثناء كنتُ أردّدُ في داخلي: ( لو كانَ الفّقرَ رجلاً لقتلتهُ أنا أيضاً ) نعم ليتَ الفقر ينتهي ويعمَّ الخير والنّعَم على الجميع، شعرتُ بالخجل الشّديد من نفسي، لقد قبضتُ ثمنَ إجهاض أختي، بدلَ مواساتها، طلبتُ منها أُجرةَ السَّيّارة التي أوصلتني، بدلاً من أن أجلبَ لها معي هديّةً قيّمةً تسعدُ قلبها، وتُسلِيها همّها، ولكن هيهات للفقير أن يقدرَ على أن يقومَ بالواجب، فالذلُّ والعار يلاحقانهِ كما لو أنّهُ طريدة، سامحيني يا أختي فأنا أُدركُ تماماً كم كانت مواساتي لكِ جارحة…………
عائشة البراقي
Leave A Comment