أبو ريحان البيروني
اسمه ونسبه:
يحملُ التاريخ في طيَّاتِه أسماءَ شخصياتٍ تركت بصمةً لها بين سطور العلم كافةً من الأدب والفلسفة والفلك والتأريخ والترحال والطب والفيزياء –ومن النادر أنْ نجدَ شخصيَّةً واحدةً ملمةً بتلك العلوم مجتمعةً؛ إلاَّ أنَّ العالم الموسوعي أبو ريحان البيروني قد جمعها كلها.
وهو محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي، اشتهر بأبي ريحان البيروني، يُنسب إلى مدينة خوارزم التي فُتحت في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي بقيادة قتيبة بن مسلم، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ تلكَ المدينة لها دورها البارز في التاريخ الإسلامي، فلقد أنتجت عددداً من كبار العلماء والفلاسفة والمؤرخين.
وأما لفظة “البيروني” فهي بلغة أهل مدينة خوارزم تعني الغريب، حيث كان أبو ريحان يوصف بذلك من أهل خوارزم لقلة مكوثه في المدينة وكثرة ترحاله، كانت كنيته أبو الريحان، وقد حصد عدداً من الألقاب التي عبّرت عن مكانته، وأثره، وغزارة علمه، فقد لُقب بالبيروني، والأستاذ، وعالم العلماء، وأعظم عظماء الأمة الإسلامية.
مولده ونشأته: ولدَ أبو الريحان البيروني في مدينة كاث وهي إحدى مدن خوارزم التَّابعة حالياً لجمهورية أوزبكستان، وقد وُلد البيروني في شهر ذي الحجة سنة 362 هـ الموافق 3 سبتمبر973 م، كان والده تاجراً وأمه تعمل في جمع الحطب، توفي والده وهو لا يزال صغير السِّن فاضطر للعمل وإعانة والدته. التقى يوماً بعالمٍ يوناني فعرض عليه العمل عنده على أن يُعلمه ويعطيه أجراً يكفي لمعيشته هو ووالدته، فوافق العالم اليوناني ودُهش من معرفة البيروني للغة العربية والفارسية، وبدأ يُعلّمه اليونانية والسريانية.
ملامح شخصيته: كان البيروني طيب المعشر، حسن الخلق ولطيف المقال وعفيف الفعل، مهتماً بتحصيل العلوم وجمع المعارف، منشغلاً بالقراءة وتصنيف الكتب مُطيلاً النظر في أقسامها وأبوابها، فلا يكاد القلم يُفارق يده.
وكان عزيز النَّفس مقدّراً لمكانة العلم ورفعة شأنه، فأبى صُحبة الخلفاء ورفض عطاياهم ولم يطاوعهم تكريماً منه لهيبة حملة العلم ورواده.
مؤلفاته وأساتذته: تتجلى إسهامات العالم الموسوعي البيروني في كتبه واكتشافاته الكبرى التي لا يزال يُشهَد لها بأنها قد حققت فارقاً في العلوم، والفيزياء، والفلك، وقد أتاح له السفر والترحال الالتقاء بكبار علماء عصره مثل العالم ابن سينا وأبي الوفاء صاحب مرصد بغداد الذي علَّمه الهندسةَ، ودرسَ الرّياضيات على يد منصور بن عراق، وتلقَّى علمَ الفلك على يد أبي نصر منصور بن علي الذي أطلعه على هندسة إقليدس وفلك بطليموس. تراكمت تلك الخبرات والمعارف والتجارب ليصوغها العالم البيروني في كتبه التي تجاوزَ عددها المئة وخمسين كتاباً.
لهُ كتبٌ في التَّاريخ، والفلك، والفيزياء، والصيدلة، والمعادن، وفقه اللغة، والرياضيات، والهندسة، ومن أشهر هذه الإسهامات والمؤلفات:
كتاب القانون المسعودي: حيثُ يُعتبر هذا الأثر من أهم مصنفات العالم البيروني، فقد عمل فيه على صياغة مجموعة من الجداول الفلكية، فالمجلد فيه يحوي أحد عشر مقالاً كتب فيها عن التسلسل الزمني، وعلم حساب المثلثات، والجغرافيا الرياضية، والخسوف والكسوف، وحركة الشمس والقمر، فهو بمثابة النسخة المحدثة والمحسنة من المجسطي لبطليموس، حيثُ أضاف البيروني عدداً من التّصحيحات والاكتشافات التي رصدها وأثبتها، فهو حتى يومنا الحالي يعدُّ منجماً زاخراً بالعلم عن تاريخ علم الفلك الإسلامي حتى القرن الحادي عشر، فكان هذا الكتاب يتربع على عرش ذروة مجاله.
تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة: وهو كتاب دوّن فيه البيروني الثقافة الهندية القديمة، فكان مرجعاً جامعاً للفلسفة، والأدب، والتاريخ، والجغرافيا، وقد وصف المستشرق الإيطالي آلدو ميلي الكتاب بقوله أنَّه المرجع الأساسي بكل ما يتصل بحياة الشعب الهندي. وقد تُرجم الكتاب لعدَّة لغاتٍ.
الآثار الباقية من القرون الخالية: ضمَّ هذا الكتاب عرضاً مفصلاً لتقاويم الأمم السابقة وما اعتراها من تعديل وتغيير وإضافة، ففيه جداول مفصَّلة لحساب الأشهر التركية، والهندية، والعبرية، والفارسية، والرومية، فهو يُعدُّ من أغزر الكتب التي ألّفها البيروني، وقد تُرجم الكتاب وطُبع في لندن عام 1789م.
الصيدلة في الطب: يعدّ هذا الكتاب من أواخر ما ألفه البيروني في حياته، ففيه دوّن البيروني أبحاثه عن المواد الطبية، وأسمائها، وطبيعة تراكيبها، على نسق ما قام به الطبيب الروماني ديوسقوريدس الذي سجّل 600 نبات طبي، إلا أن البيروني قد سجل في كتابه هذا خمسة أضعاف ما سجله الطبيب الروماني. الجماهر في معرفة الجواهر: وهو كتاب في علم المعادن، جمع أنواعها، وخصائصها، وأوزانها، وأنماطها، وهذا مِمّا جعل البيروني رائداً من رواد علوم المعادن. وله كتبٌ ومؤلفات أخرى ففي الأدب له شرح ديوان أبي تمام، ومختار الأشعار، والآثار، وفي الفلسفة له كتاب المقالات والآراء والديانات، وجوامع الموجود في خواطر الهنود، وله في الجغرافيا كتاب تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض، وكتاب تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، وفي التاريخ له كتاب تصحيح التواريخ، وفي الفلك ألّف كتاب الاستشهاد باختلاف الأرصاد وتعبير الميزان لتقدير الأزمان، وفي علم الرياضيات له كتاب استخراج الكعاب والأضلاع وما وراءه من مرتاب الحساب، وله أيضاً كتاب الأرقام.[٥] من أقواله وأقوال العلماء فيه شهِد للبيروني ومؤلفاته جمع كبير من العلماء والمستشرقين، وأثنوا على ما قدّمه للعالم من مؤلفات، وخبرات، وتجارب، وإثباتات دونها في مؤلفاته وجمعها في كتبه، فالمستشرق روزن يصف كتاب البيروني (القانون المسعودي) فيقول: “لا مثيل له في الأدب العلمي القديم أو الوسيط، سواء في الغرب أو في الشرق”، وفي عام 1951م وبمناسبة مرور ألف سنة هجرية على مولد العالم البيورني احتفت الهند بهذه الذكرى وأصدرت مجلداً تذكارياً حوى عشرات المقالات، والبحوث التي دَوّنت مناقبه، وعلومه، وأسفاره، وفوائد مؤلفاته، وقَد أصدرت أكاديمية سوفييتية للعلوم مجلداً تذكارياً في العام ذاته، عُنوِن باسم البيروني تخليداً لذكراه وتقديراً لمكانته.
كما قال فيه أحمد تمَّام: “كان البيروني عالمًا فذاً، متعدد الجوانب، غزير الإنتاج، عظيم الموهبة عميق الفكر، فهو مؤرخٌ محققٌ، وجغرافيٌ مدققٌ، وفلكي نابه، ورياضي أصيل، وفيزيائي راسخ، ومترجم متمكن”، وكذلك وصفه المستشرق الألماني سخاو بقوله أنَّه: “أعظم عقلية عرفها التاريخ كماتمَّ اختيار اسمه ليكون من ضمن 1ثمانية عشر عالمٍ مسلمٍ ، سُمّيت بأسمائهم معالم وأماكن على سطح القمر، وقد سُميت باسمه جامعة في طشقند عاصمة جمهورية أوزبكستان.
ومن أشهر أقواله:
- “الملك أقل الناس خوفاً من الفقر، وأكثر الناس خطراً وقرباً إلى الهلاك، فليس له أن يبخل ويجبن، فإن ما قلَّ عنده لا يكثر، وما كثر لا ينعدم.”
- “من كفاه التأديب بالكلام لا يؤدب بالسوط والسيف.”
- “ليس للملك أن يُحسد إلا على حسن التدبير والسياسة.” إسهاماته العلمية ووفاته: للبيروني إسهامات علمية فذَّة، واستنتاجات، ونظريات، ومعارف لم يسبقه إليها أحد، فقد كتب في عمر الأرض مدوّناً ما تعرضت لهُ من براكين وزلازل، وله نظريات حول تكوين القشرة الأرضية، ولهُ أبحاث في الوزن النَّوعي، وتوصَّل إلى أنَّ سرعة الضوء أكبر من سرعة الصَّوت، ووصف ظاهرة الخسوف والكسوف، وأشار لدوران الأرض حول محورها، وشرح كيفية عمل الينابيع الطبيعية والآبار الارتوازية، وقد توصّل في أبحاثه إلى أنَّ الحفريات ماهي إلاَّ بقايا آثار الكائنات الحيَّة التِّي عاشت في قديم الزمان، وقد أيّده على ذلك علماء الجيولوجيا في عصرنا الحديث. توفي العالم الموسوعي أبو ريحان البيبروني عام 440 هـ الموافق 1048م، بعد أن أمضى حياةً كانَ يملؤها الشَّغَف إلى الاستزادة من العلمِ والمعارف، ونور مؤلفاته لا يزال يشعُّ من رفوف إرث العلماء على طلبة العلم العرب والغرب.
Leave A Comment