دراجة أخي:

منذ كنتُ في سنين عمري الأولى عرفتُه أخي بعينيه العسليتين اللاَّمعتين بنقاء، الطُمأنينة تكسو وجهه، قلبه يخشى أن يجرح عدواً فكيفَ به تجاهَ صديق.
تفاحة آدم تتوسَّط عنقه كنتُ في طفولتي أتأملها كثيراً كيفَ تتحرَّك حينَ يُغني
كانت علامته الفارقة بالنسبة لي، الحديث يطول عن صفاته طويل القامة نحيل الجّسم لكثرة ما يفكّر بآلام المظلومين…….
لطالَما قوَّم عابري سبيل أو أصدقاءَ عمَل بكلّ طيبٍ ورصانة، حتَّى كانوا يتجاوبون مع نقده المحِب بكلّ إيجابية وخجل من أنفسهم.
كانَ متفوّقاً في كلّ ما يعمل.
الآن ذهبَ أخي قطعةَ الرُّوح معَ الرّيح، فمزَّق فرَحي وشرَّد راحةَ بالي بغيابِه.
بعدَ وقتٍ قصير مِن غيابه عاوَد الثُّقبُ الأسود ابتلاع زوجته وأبنائه ..
غابوا عنَّا وراءَ جبالٍ غربيَّة، وحُرِمتُ مجدّداً مِن ضمّ ما يُعوّضني عَنه وما يذكّرني برائحته.
كما لو أنَّها لعنةُ الفَّقد تسلّبنا كلّ ما يخصّك يا أخي.
بيته انهار أيضاً تحتَ وطأةِ الحرب.
وبقيَ لنا منهُ فقط دراجته التي كان يهوى رُكوبها لينشّطَ جِسمه عندَ ذَهابه إلى أماكنَ قريبة، كنتُ كلَّما زُرتُ أهلي أقبّل مِقودَها فيرتجف شغاف قلبي شوقاً وألماً….
هذا أبسط ما أقدر أن أُتَرجمه إلى كلام منمشاعري.
ولكنَّ أخي الآخر كانَ يأخذُ تلكَ الدَّراجةَ التي صارت بالنسبةَِ لنا بصيص الذّكريات التي تلتهمها الأيام الواحدة تلوَ الأُخرى.
لا أدري في الحقيقة لماذا أكتب موضوعا شخصيّاً كهذا !!
هي نقطةٌ بعينها يهمُّني الحديث عنها
وهي أنَّ أخي الأصغر كانَ يقودُ الدَّراجة في الشّوارع وتغمره سعادة خفيّة، فهو يلمسُ مكان يَدي أخينا الأكبر الذي غابَ فتتلاقى يداه معَ طيف يدي أخيه.
يشعرُ بالطمأنينة المزيّفة التي تأتي مِن شيءٍ لا يُطمئِنُ أصلاً ولكنَّها على الأقل تأتي.
ولطالَما ذرفَ الدُّموع وسالت على حديد الدَّراجة فدفأته لِما فيها مِن حرارة الأشواق.
وكانَ عندما يركنها في الشَّارع ويضعُ القِفل ويغادر، يوجسُ خيفةً بأنَّه قد يعود فلا يجدَها
إلى أن أتى ذاك اليَوم المَشؤوم الذي عادَ فيهِ أخي ليأخذَ الدّراجة فلم يجِدها بالفعل.
تصلَّب في مكانه، كان يريدُ أنْ يصرخَ بأعلى صوتِه ويقول للسَارق تعال أيُّها السَّارق أرجوكْ أعِد لي آخرَ ما أملكه من ذكرياتي مع أخي.
صرخَ قلبه مفجوعا ثمَّ تهالَك مُتعباً.
سارَ في الشَّارع والصّدمة تُغشي عينيه؛
شَعرَ بأنَّ المَسافةَ التي سارَها حتى وصلَ إلى البيت أطولَ مسافةٍ يسيرها في حياته، راحَ دونَ أنْ يشعر ينظرُ إلى كلِّ من مرَّ راكباً دراجة، ولا يَدري لماذا كانَ يفعلُ ذلك!
لعنَ السَّارق لعنات فيها الكثير منَ اللّوعات والأسى.
هذا السارق الأحمق ظنَّ نفسَه سرَق مجرَّد درَّاجة، ولكنّه في الحقيقة سرَقَ المَلاذ الأخيرَ لنا حين كُنَّا نشتاقُ لأخي؛ كانت متَّكأَ هُمومِنا إن ولِعت أشواقنا.
عندما عادَ أخي الأصغَر إلى البَيت خشيَ أهلي أنْ يُثقِلوا عليه بالأسئلة.
واعتبروها مأساةً جديدةً مِن بينِ مآسيهم التي قسَمت ظهورهم منذُ زمنٍ بعيد.
وهكَذا تكاتفَت الأقدار إلى أن سلبت منّا أعظمَ الأشياءِ وأصغرها
حتى أصبحَ الفَقدُ روتينَ أيامِنا، و مقبرةَ أفراحِنا.

عائشة البراقي